التخطي إلى المحتوى الرئيسي
صخب موسيقى الجاز

عبدالوهاب لاتينوس
---------------------------------------------------------------------
كان الوقت مساءً ، تقارب الساعة السادسة والنصف ، مالت الشمس بخطى واثقة نحو الغروب ، مخلفة ورائها سحب حمراء كثيفة ، تشبه دماً ودموع .
في ذلك المساء ، كان الجو مشبعاً بغيوم لا تمطر ، وذرات غبار تسقط بعنف فوق أسقف المباني .
كان لينينوس في ذلك المساء البعيد ، يقبع وحيداً داخل غرفته التي لا تتسع إلا لشخص واحد وأريكة صغيرة للجلوس ومنضدة صغيرة خصصت موضعاً لمنفضة سجائر ، ولاعة ، وكتب باهتة بلا أغلفة .
كان يجلس بوجه عبوس مكفهر ، سانداً ذراعيه على تلك المنضدة ، يراقب حركة الشارع التي خفت عن سابقتها . يشدّه الهدوء الذي يشبه صمت الموتى .

بعد هنيهة مِن جلوسه ، شعر بملل يكتنفه رغم أن ذاك الصمت كان يروقه . ربما قد شعر بقلق ما ، أمر ما ينغص عليه سانحة الهدوء تلك التي يغوص فيها .
لحظات ما قبل هبوط الليل ، أمر جيد ، وبالتالي ينبغي على المرء الإستمتاع بها ، هجس في نفسه .
كان فيما مضى ، يعبد هذا الطقس المسائي . إذ كلما وجد نفسه غير مشغول بشيء ، راح ينفذ ذاك الطقس بشغف وحب نافذين .
تململه أو بالأحرى قلقه ذاك ، قد ولَّد فيه رغبة في القراءة ، قراءة الشِّعر ، أو أي صنف مِن الأدب يكفي .
وتنفيذاً أو إنصياعاً لرغبته تلك ، بكسل مد يده نحو المنضدة المنصوبة أمامه ، تناول كتاباً ، بلا غلاف طبعاً ، لم يكن يدري صنفه ، فتحه من أخر صفحة فيه ، ثم طفق يقرأ بصوت خفيض :

ليس سيئاً أبداً أن تموت
في مقتبل العمر
دون أن تبلغ الثلاثين بعد .

ليس سيئاً أن تغادر باكراً أبداً ،
السيء ، أن تموت وحيداً
دون أمرأة ،
تقول لك : تعال إليّ ، حضني يتسع لكَ ،
دعني أغسل روحكَ مِن درنِ البؤسِ .

أمرأة كلما ضحكتْ
هرب الليل على أصابع الوقت .

ربما أراد أو كان ينوي بالفعل ، تحقيق ما رمى إليه الشاعر : الموت بين أحضان أنثى ، تعرف كيف تشهق ، كيف تتلوى كأفعى بين ذراعيْ رجل ، يعرف بدوره كيف يبذر جنون الشهوة في روح أمرأة .

وحين بدأ الليل يرخي سدوله ، همّ بمغادرة المنزل ، أو بالأحرى الخروج مِن سجنه الإنفرادي ، بسقفه الباهت ، وجدرانه المتهالك بفعل صفعات المطر والشمس .
أراد أن يطل على عالم أكثر رحباً ، أكثر ضجيجاً وصخباً ، وتباعاً أكثر حياة .
ربما سيختار مقهى " الديجتاس " ، بسبب قربه مِن منزله مِن ناحية ، وأثمان خدماته الزهيدة مِن ناحية أخرى . فهو يعيش في دوامة فقر لا تنتهي . تنتهي دورة ، لتبدأ أخرى مِن جديد ، في تجدد لا متناه .
ضيف إلى ذلك فتيات المتعة اللاتي يزخر به .
إذ لا يمكن لأحد مقاومة إغراء فتياته ، وخاصة أنجليك نادلة المقهى ، التي تطفو غواية وسحراً ورقة .
هي بالأحرى ، عاهرة متمرسة ، تقوم بدور نادلة حيناً ، ومهربة نبيذ ، ويسكي ، فودكا ، إلى زبائنها الذين يلتذون بإحتساء الكحول ، حيناً آخر .
تلك المرأة التي لتوٍ تفتحت أنوثتها ، تكوَّر نهديها ، وبرزت مؤخرتها للخلف بصورة جلية ، قد لسعته بأنوثتها المتفجرة والفاجرة ، التي أبداً لا تقاوم .
ها هي منتصبة أمامه كأوركيدة يانعة في فجر ربيعي .
- مرحباً بزعيم العمال ، وحفيد الماركسة . أستقبلته بمزحة وهي تبتسم بخبث . عانقها بحب كبير ، ثم توجه صوب الداخل .

صخب موسيقى الجاز ، يتعالى في الفضاء الرحب ، صخب يدفئ الجسد والروح معاً ، صخب يبدد ظلمة الليل ، صخب يضيء ، فيبعث النهار .
في تلك الظلمة التي تختلط بالضوء ، بالأمل واليأس ، أشعل سيجارة ، أخذ نفساً عميقاً ، ثم نفث دخانها ، فتناثر بشكل لولبي في فضاء المقهى الرحب .
ها هي مِن جديد تتوجه نحوه ، تختال في خطوها ، تتراقص كموديل على السجادة الحمراء .
دعس بقدمه اليسرى عقب سيجارته ، ثم شخص ببصره نحوها . رآها كما هي لا تشبه أحد . أمرأة بملامح غريبة جداً ، أمرأة تشبه نفسها .
- ماذا يريد .....
قاطعها قبل أن تتم جملتها . كالعادة .
مسرعة ذهبت مِن حيث آتت دون أن تنبس بكلمة .

بدا منزعجاً بعد الشيء ، ربما لم تروقه تلك القهوة التي أتت بها أنجليك قبل قليل . أو لعل مشروب المانجو لم يكن كما عهده مِن قبل . فكان ولم يزل شرابه المفضل .
الموسيقى تتدفق بإنسياب ، تعبق المكان ، تصبغه بهالة جنون صاخبة لا مثيل لها .
لاذ بالصمت ، بعد أن خيم صمت داخلي عليه ، وغمره مياه الشرود الدافقة مِن أعماق سحيقة .
في ذات وقت شروده ، كان على مقربة منه ، ثلة مِن أربعة مراهقين يتصايحون ويتضاحكون بصخب وعربدة لم تنضج بعد . كان أحدهم يعتمر قبعة رمادي اللون ، تحجب جل ملامحه . قبعة تشبه تلك التي يعتمرها تبجحاً ، مغنو الغرب ، أو الراب ، لستُ أدري .

يتذكّر الآن ، كيف ألتقى بها في أول الأمر ، حين كانت تعمل بائعة فول محمص في مدرسة ثانوية ، في أول الصباح ، ونصف عاهرة حين يهبط الليل . كان هو في ذات الوقت يعمل أستاذاً متطوعاً ، بدوام غير كامل .
تناهى إلى سمعه جرس هاتفه ، رغم شروده البعيد . أخرجه برعونة تعبِّر عن غضب يصعب إخفاؤه .
" أعلم جيداً أنني لم أكن يوماً لكَ ، لأنكَ لم تضعني ضمن خططكَ النسائي ، لكن لا بأس في أن تستخدمني أو إستخدمكَ لليلة واحدة فقط " .
إنها رسالة قادمة مِن إبنة خالته ، تلك المهوسة به ، المراهقة التي لم تتشكّل تضاريس جسدها بعد .
كتب على عجل " لا بأس سأراكِ بعد ساعة مِن الآن " . وآن همّ بإرجاع هاتفه إلى جيب بنطاله ، طفا على رصيف ذاكرته نص قد قرأه فيما مضى :

حين لا نحب
حين نتوقف عن فعل
كل ما يجعل أحدهم يضحك بفرح
طفل لم يزل يلعق من ثدي أمه

حين نتوقف عن فعل كل ما يمت
بصلة إلى الحياة ،
آنه ، بكل تأكيد ، نحن نصنع الحروب
ونمارس القتل .
/ / /
2/4/2020

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جداً

عبدالوهاب لاتينوس ------------------------------------------------------------------- (1 ) فقد شغفه بها ، فقد التوق إليها ، بعد أن غدا حبها بلا معنى ، بعد أن غدا حباً لا يجلب غير ركام الليل . كان يريدها وجبة طازجة ، يلتهمها كلما شعر بجوع يدب في جسده ، وهي أيضاً تنظر إليه مِن نفس الزاوية ، وإن كان هناك إختلاف طفيف . لم يكن يصدق نفسه ، أنه في يوم ما ، يفقد حبه إليها ، بريقه ، أن يبهت ، فيغدو مثل خرقة قماش ، نالت منها شمس آذار . والآن كل ما تبقى ، هو فتات حب ، أكل منها الزمن ، ما تبقى هو إشتهاء جنسيٌّ فقط . (2 ) هكذا ؛ فجأةً ؛ دون مقدمات ، نزع ملابسه ، كان يسير بخطى وئيدة بمحاذاةِ الطريق . كانت شمس الأصيل تضرب جسده ، جاعلةً منه لوحة باهتة المعَالِم ، تتلقفها نظرات المارة بحنق مكبوت . ما أثار غضبه ، وأجج النار في أحشاؤه ، كان قد تناهى إلى سمعه ، حديث نفر يقتعدون على حافةِ الطريق العام ، يلوكون كلام بغير إنتظام ، قال أحدهم : تم قتله لأنه لص ، لأنه عبد وكفى . حتى في بلاد الفرنجة يجلبون المشاكل . دعس بقدمه اليمنى هذه ا...

شذرات V

عبدالوهاب لاتينوس ---------------------------------- ثمة أمر وحيد لم أكن أطيقه في الليل ، هو أن أنظر مِن حولي فلا أرى أحداً يحدِّق فيَّ غير خيوطِ عناكب . لم أعشْ كثيراً بما يكفي ، لم ألثم نهد الحياة ، ولكنّي مستعداً أبداً للموت . في الليل قلبي ليس لي ، دائماً ما ينحاز إلى أمرأة . في الغالب ، نحن لا نفعل شيئاً فقط ، نقتل الوقت ثم بأقدام وَجِلة نهرب للخلف . لا أملكُ وقتاً لأحد ، لا للحب ، لا للوطن ، ولا حتى لنفسي . وقتي أبذره فقط هباءً في الكتابة .
لا تكتب ، على خطى بوكوفسكي... عبدالوهاب لاتينوس ----------------------------------------- الكتابة أمرٌ سهلٌ جداً ، ولكن إن لم تستطع أن تتحمّل وصمة العار إن لم تتقبل وصمة الإلحاد ، فلا تكتب . لا تكتب إن لم تتقبل وصمكَ بزيرِ النساء ، الماجن والمنحط الذي لا يعرف غير العهر والجنس . إن لم تستطع أن تقول الحقيقة كاملة عارية في وضحِ النهار ، فلا تكتب . لا تكتب أبداً ، إن لم تكن مستعداً لتخسرَ أمك وأبيك ، أن يطردك والدك ، بلا رحمة ، مِن المنزل في صباحٍ باكر ، فتشيعه بإبتسامةِ فخرٍ وتحدٍّ . لا تكتب ، إن لم يكن بوسعكَ إبتلاع تقريعات الجميع بلا مبالاة . أبداً لا تكتب ، إن لم ترَ الكتابة ؛ تجديفٌ ضد كل شيء ، حتى الرب . بحقِ الجنون ، لا تكتب ، إن لم ترَ الكتابة؛ جنونٌ مِن نوع آخر موتٌ مِن نوع آخر جحيمٌ مِن نوع آخر . صِدقاً لا تكتب ، إن لم ترها ؛ إنتحارٌ بعد ممارسة حب عاصفة . لا تكتب أبداً ، إن لم تهبكَ لذة الجنس إن لم تهبكَ لذة الإحتضار إن لم تحب ذلك ، فلا تكتب . لا تكتب ، إن لم تعشق رائحة الكتب التي تشبه رائحة الطمث . لا تكتب أبداً ، إن لم تحس يوماً برغ...